ما تزال الأندلس متشبثة بذاكرتنا، وما تزال قصص محاكم التفتيش تكوي قلوبنا حينما نتذكر ما حل بأهلنا من مسلمي الأندلس، وحينها ترد في أذهاننا سيرة حكيمة غرناطة، الشهيدة الأندلسية سليمة بنت جعفر، تُرى ما قصتها؟
سليمة بنت جعفر
يحفل تاريخ الأندلس بسير النوابغ من العلماء والأدباء والشعراء الذين غيروا مجرى التاريخ، فقد وثق التاريخ لنا انجازاتهم ومخترعاتهم وقصائدهم التي لا نزال نرددها حتى اليوم، ومن بين أولئك العلماء تسطع سليمة بنت جعفر بطلة قصتنا، والتي لسوء الحظ عاشت زمن سقوط الأندلس، فأصابها ما أصابه من جور.
تنتمي سليمة بنت جعفر إلى غرناطة آخر معاقل المسلمين، تلك المدينة الراقية التي عرفت بمجالس علمها وشعرائها والتي بسقوطها سقطت الأندلس للأبد، وعاث القشتاليون في الأندلس فسادًا، ومن هنا تبلورت الفكرة الإرهابية التي سفكت الدماء وطمست العلم وحرقت الكتب وقتلت العلماء ألا وهي ” محاكم التفتيش”، وقبل أن نتطرق إلي ذكرها، دعنا نتعرف على بطلتنا أولًا.
من هي سليمة بنت جعفر؟
تعد الطبيبة سليمة بنت جعفر من أشهر شخصيات التاريخ، فقد تربت تلك النابغة على يد جدها “أبي جعفر الوراق الغرناطي” والذي كان شغوفا بالكتب، فعمل في جمعها وبيعتها، وانتقلت جينات حب الكتب إلى سليمة الصغيرة وأورثها كتبه، ولكنها شهدت رفقة جدها حرق القشتاليون للكتب في ساحة باب الرملة أمام أعينها وأعين جدها.
وكان جدها قد أخفى أثمن الكتب عن أعينهم، ومن هنا بدأت حكاية سليمة التي ظلت تطالع تلك الروائع الطبية العربية، ولم تكتف بالقراءة فحسب بل حولت غرفة نومها إلى معمل خاص بالأدوية، وبدأت تُعالج الناس في عصر الظلام، عصر اضطهاد العلم والعلماء، وعدم الاعتراف بالكتب والطب، واشتهرت حينها بحكيمة غرناطة.
نرشح لك: دخول العائلة المقدسة لـ مصر “تشريف وعيد قومي” للمصريين
محاكم التفتيش
مثلت محاكم التفتيش عدوانًا وارهابًا ضد كل ما هو مسلم عربي في الأندلس، فبدأوا بتحويل الناس عن دينهم وإجبارهم على الدخول في المسيحية وتغييرهم أسمائهم، ومن يرفض يلاقي أشد أنواع العذاب، ومن هنا بدأ الناس يعلنون المسيحية ويضمرون الإسلام، يؤدون شعائر المسيحية رياء في الكنائس ويصلون خلسة في بيوتهم.
كان يكفي أن يخبرهم أحد الأفراد أن من أمامهم ارتكب أي تهمة أو حتى أنه ليس بمسيحي وحينها تبدأ دائرة التعذيب التي لا تنتهي، كما أنهم أحرقوا كافة الكتب العربية واضطهدوا العلماء بل وقتلوهم، وقد طالت نيرانهم الطبيبة سليمة بنت جعفر.
محاكمة سليمة بنت جعفر
ما من عقل يصدق اتهام طبيبة تعالج الناس بممارسة السحر الأسود، سيقت سليمه بنت جعفر إلى المحاكمة أمام محكمة التفتيش فقط لكونها عالمة وطبيبة.
اتهمها القاضي بممارسة سحرًا أسودًا يضر الناس، وحيازتها لبذور ونباتات تستخدمها في عقاقيرها الشيطانية، بالإضافة إلى كونها لم تتخل عن دينها المحمدي لإيمانها برحلة الإسراء والمعراج.
وكانت تلك التهم كفيلة بأن تحكم المحكمة على الطبيبة سليمه بنت جعفر بالحرق، ويالها من نهاية حين نعلم أن امرأة أندلسية مسلمة نالت تلك العاقبة والمصير فقط لكونها عالمة وطبيبة.
ذكر سليمه بنت جعفر في الأدب
تناولت الكاتبة المصرية رضوى عاشور سيرة سليمة بنت جعفر في روايتها الشهيرة ثلاثية غرناطة، والتي استلهمت فيها روح الطبيبة وكافة أفراد عائلتها لتكتب ملحمة أدبية تعبر عن تلك الفترة الصعبة من تاريخنا والتي بزغ فيها ضياء شهيدتنا الأندلسية، حتى لا ننسى أبطالنا، ولا ننسى ما عانوه من مصير.
هكذا نكون قد تعرفنا على بطلتنا سليمة بنت جعفر، حكيمة غرناطة الشجاعة التي لم تهتز أمام محاكم التفتيش وجور القشتاليين، والتي تغنى بها الكتاب العرب والأجانب على السواء، نظرًا لما أبدته من صمود وذكاء وقوة في عهد عُرف بظلمته وظلمه.